فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقابيل نفي من الأرض التي كان فيها مقتل أخيه، وأن بني إسرائيل تاهوا أربعين سنة على عدد الأيام التي غاب فيها نقباؤهم في جسّ أخبار الجبابرة، وأن قابيل حمل هابيل بعد أن قتله أربعين يومًا- ذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وقصده السباع فحمله على ظهره أربعين يومًا، وكل هذه محسنات والعمدة هو الوجه الأول.
وأحسن منه أن يكون الأمر لموسى عليه السلام عطفًا على النهي في لاتاس، والمعنى أن الأرض المقدسة مكتوبة لهم كما قَدمته أنت أول القصة في قولك: {التي كتب الله لكم} [المائدة: 21] فأنا مورثها لا محالة لأبنائهم وأنت متوفٍ قبل دخولها، وقد أجريت سنتي في ابني آدم بأنهم إذا توطنوا واستراحوا تحاسدوا، وإذا تحاسدوا تدابروا فقتل بعضهم بعضًا، فاتل عليهم هذه القصة لتكون زاجرة لهم من أن يفعلوا ذلك إذا فرغوا من الجبابرة وأبادوهم وصفت لهم البلاد فتوطنوها، وأخرجت لهم بركاتها فأبطرتهم النعم، ونسوا غوائل النقم؛ ويكون ذلك وعظًا لهذه الأمة ومانعًا من فعل مثل ذلك بعد إكمال دينهم ووفاة نبيهم وإظهارهم على الدين كله، كما تقدم به الوعد لهم فقهروا العباد وفتحوا البلاد وانتثلوا كنوزها وتحكموا في أموالها، فنسوا ما كانوا فيه من القلة والحاجة والذلة فأبطرتهم النعم، وارتكبوا أفعال الأمم، وأعرضوا عن غوائل النقم- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، الا والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» أخرجه الترمذي والإمام أحمد وأبو داود الطيالسي في مسنديهما والبزار- قال المندري: بإسناد جيد- والبيهقي وقال: «لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا» رواه الطبراني ورواته ثقات، وذكر الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي في القسم الثاني من سيرته في فتح جلولاء من بلاد فارس أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أرسل الغنيمة إلى عمر رضي الله عنه أقسم عمر رضي الله عنه: لا يخبأها سقف بيت حتى تقسم! فوضعت في صحن المسجد، فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم رضي الله عنهما يحرسانه، فلما جاء الناس كشف عنه فنظر عمر رضي الله عنه إلى ياقوتة وزبرجدة وجوهرة فبكى، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فوالله إن هذا إلا موطن شكر! فقال عمر: والله ما ذاك يبكيني، وتالله ما أعطى الله هذا قومًا إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا ألقى بأسهم بينهم.
شرحُ قصة ابني آدم من التوراة، قال المترجم في أولها بعد قصة أكل آدم عليه السلام من الشجرة ما نصه: فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حيّ، وصنع الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسهما، فأرسله الله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ، فأخرجه الله ربنا، فجامع آدم امرأته حواء فحبلت وولدت قايين وقالت: لقد استفدت لله رجلًا، وعادت فولدت أخاه هابيل، فكان هابيل راعي غنم، وكان قايين يحرث الأرض، فلما كان بعد أيام جاء قايين من ثمر أرضه بقربان لله، وجاء هابيل أيضًا من أبكار غنمه بقربان، فسر الله بهابيل وقربانه ولم يسر بقايين وقربانه، فساء ذلك قايين جدًا وهمَّ أن يسوءه وعبس وجهه، فقال الرب لقايين: ما ساءك؟ ولِمَ كسف وجهك؟ إن أحسنت تقبلت منك، وإن لم تحسن فإن الخطيئة رابضة على الباب وأنت تقبل إليها وهي تتسلط عليك، فقال قايين لهابيل أخيه: تتمشى بنا في البقعة، فبينما هما يتمشيان في الحرث وثب قايين على أخيه هابيل فقتله، فقال الله لقايين: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أدري، أرقيب أنا على أخي؟ قال الله: ماذا فعلت! فإن دم أخيك ينادي لي من الأرض، من الآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها فقبلت دم أخيك من يدك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حراثها، وتكون فزعًا تائهًا في الأرض، فقال قايين للرب: عظمت خطيئتي من أن تغفرها، وقد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قدامك وأكون فزعًا تائها في الأرض، وكل من وجدني يقتلني، فقال الله ربنا: كلا! ولكن كذلك كل قاتل، وأما قايين فإنه يجزى بدل الواحد سبعة، فخرج قايين من قدام الله فجلس في الأرض نود شرقي عدن- انتهى.
قال البغوي عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت فيها بقابيل وتوأمته- فذكر قصته في النكاح وقتله لأخيه وشرب الأرض لدمه قولو قابيل لله- حين قال له: إنه قتله-: إن كنت قتلته فأين دمه؟ فحرم الله على الأرض يومئذ أن تشرب دمًا بعده أبدًا- انتهى.
ولما أخبر الله تعالى بأن أحدهما فعل معه من عدم القبول ما غاظه، كان كأنه قيل: فما فعل حين غضب؟ فقيل: {قال} أي لأخيه الذي قبل قربانه حسدًا له {لأقتلنك} فكأنه قيل: بما أجابه؟ فقيل: نبهه أولًا على ما يصل به إلى رتبته ليزول حسده بأن {قال إنما يتقبل الله} أي يقبل قبولًا عظيمًا المحيط لكل شيء قدرة وعلمًا الملك الذي له الكمال كله، فليس هو محتاجًا إلى شيء، وكل شيء محتاج إليه {من المتقين} أي العريقين في وصف التقوى، فلا معصية لهم يصرون عليها بشرك ولا غيره، فعدمُ تقبل قربانك من نفسك لا مني، فلم تقتلني؟ فقتلك لي مبعد لك عما حسدتني عليه. اهـ.

.اللغة:

{قربانا} القربان ما يتقرب به إلى الله.
{تبوء} ترجع يقال: باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزل.
{فطوعت} سولت وسهلت، يقال: طاع الشيء إذا سهل وانقاد، وطوعه له أي سهله.
{يبحث} يفتش وينقب.
{سوأة} السوأة: العورة.
{يا ويلتا} كلمة تحسر وتلهف، قال سيبويه: كلمة تقال عند الهلكة.
{ينفوا} نفاه: طرده، وأصله الإهلاك ومنه النفاية لرديء المتاع.
{خزي} الخزي: الفضحية والذل، يقال: أخزاه الله أي فضحه وأذله.
{الوسيلة} كل ما يتوسل به إلى الله من عمل صالح.
{نكالا} عقوبة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه:
الأول: أنه تعالى قال فيما تقدم {يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} [المائدة: 11] فذكر تعالى أن الأعداء يريدون إيقاع البلاء والمحنة بهم لكنه تعالى يحفظهم بفضله ويمنع أعداءهم من إيصال الشر إليهم، ثم إنه تعالى لأجل التسلية وتخفيف هذه الأحوال على القلب ذكر قصصًا كثيرة في أن كل من خصه الله تعالى بالنعم العظيمة في الدين والدنيا فإن الناس ينازعونه حسدًا وبغيًا، فذكر أولًا قصة النقباء الاثنى عشر وأخذ الله تعالى الميثاق منهم، ثم إن اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللعن والقساوة، وذكر بعده شدة إصرار النصارى على كفرهم وقولهم بالتثليث بعد ظهور الدلائل القاطعة على فساد ما هم عليه، وما ذاك إلا لحسدهم لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدين الحق، ثم ذكر بعده قصة موسى في محاربة الجبارين وإصرار قومه على التمرد والعصيان، ثم ذكر بعده قصة ابني آدم وأن أحدهما قتل الآخر حسدًا منه على أن الله تعالى قبل قربانه، وكل هذه القصص دالة على أن كل ذي نعمة محسود، فلما كانت نعم الله على محمد صلى الله عليه وسلم أعظم النعم لا جرم لم يبعد اتفاق الأعداء على استخراج أنواع المكر والكيد في حقه، فكان ذكر هذه القصص تسلية من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم لما هم قوم من اليهود أن يمكروا به وأن يوقعوا به آفة ومحنة.
والثاني: أن هذا متعلق بقوله: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير} [المائدة: 15] وهذه القصة وكيفية إيجاب القصاص عليها من أسرار التوراة، والثالث: أن هذه القصة متعلقة بما قبلها، وهي قصة محاربة الجبارين، أي اذكر لليهود حديث ابني آدم ليعلموا أن سبيل أسلافهم في الندامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعصية كان مثل سبيل ابني آدم في إقدام أحدهما على قتل الآخر.
والرابع: قيل هذا متصل بقوله حكاية عن اليهود والنصارى {نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينتفع ولد آدم عند معصيته بكون أبيه نبيًا معظمًا عند الله تعالى.
الخامس: لما كفر أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم حسدًا أخبرهم الله تعالى بخبر ابن آدم وأن الحسد أوقعه في سوء العاقبة، والمقصود منه التحذير عن الحسد. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني آدَمَ بالحق} الآية.
وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه.
المعنى: إن هَمَّ هؤلاء اليهود بالفَتْك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء، وقتل قابيل هابيل، والشَّر قديم.
أي ذكّرهم هذه القصّة فهي قصة صِدق، لا كالأحاديث الموضوعة؛ وفي ذلك تَبْكِيتٌ لمن خالف الإسلام، وتسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{واتل عَلَيْهِمْ} عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى} [المائدة: 20] الخ، وتعلقه به قيل: من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعدما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به من البينات.
وقيل: من حيث إن في الأول الجبن عن القتل، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ}.
عَطَفَ نبأ على نبإ ليكون مقدّمة للتحذير من قَتْل النفس والحِرابة والسرقة، ويتبع بتحريم الخمر وأحكام الوصية وغيرها، وليحسن التخلّص ممّا استطرد من الأنباء والقصَص التي هي مواقع عبرة وتُنْظم كلّها في جرائر الغرور.
والمناسبةُ بينها وبين القصّة الّتي قبلها مناسبة تماثل ومناسبة تضادّ.
فأما التماثل فإنّ في كلتيهما عدم الرضا بما حكم الله تعالى: فإنّ بني إسرائيل عصوا أمر رسولهم إيّاهم بالدخول إلى الأرض المقدّسة، وأحدَ ابني آدم عصى حكم الله تعالى بعدم قبول قربانه لأنّه لم يكن من المتّقين.
وفي كلتيهما جرأة على الله بعد المعصيّة؛ فبنو إسرائيل قالوا: {اذهب أنت وربّك} [المائدة: 24]، وابن آدم قال: لأقتلنّ الّذي تقبّل الله منه.
وأمّا التّضادّ فإنّ في إحداهما إقدامًا مذمومًا من ابن آدم، وإحجامًا مذمومًا من بني إسرائيل، وإنّ في إحداهما اتّفاق أخوين هما موسى وأخوه على امتثال أمر الله تعالى، وفي الأخرى اختلافَ أخوين بالصّلاح والفساد. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {واتل عَلَيْهِمْ} فيه قولان:
أحدهما: واتل على الناس.
والثاني: واتل على أهل الكتاب، وفي قوله: {ابنى ءادَمَ} قولان: الأول: أنهما ابنا آدم من صلبه، وهما هابيل وقابيل.